بين ركام الذكريات: حكايات نزوحنا من قلبنا الجريح -الجنوب- 

التوازن بين العمل والحياةبين ركام الذكريات: حكايات نزوحنا من قلبنا الجريح -الجنوب- 
war

بين ركام الذكريات: حكايات نزوحنا من قلبنا الجريح -الجنوب- 

war

في أيلول، اعتادت صدورنا أن تستقبل نسائم الخريف برفقٍ، وكنا ننتظر تساقط أوراق الأشجار بهدوء. لكنّ هذا العام كان خريفنا مختلفًا. ففي صباح الثالث والعشرين من أيلول، سقطت أفراحنا واحدة تلو الأخرى. تمامًا كما كانت تتساقط أوراق الشجر، تهاوت أحلامنا في ذلك اليوم، إذ حملتنا الحرب بعيدًا عن أرضنا، تاركةً خلفها ذكرياتٍ مبعثرة كأوراق الخريف. في ذلك الصباح البارد، اجتاحت رياح النزوح قلوبنا، وانتزعتنا من جذورنا، تمامًا كما ينتزع الخريف أوراقه من الأغصان. 

كانت البيوت تغادرها الأنفاس، وأصبحت جدرانها العتيقة شواهد على حياة توقفت فجأة. لم يتبقَ للناس سوى دقائق معدودة لجمع ما استطاعوا من مَتاع، تاركين خلفهم ذكرياتهم معلقة على جدران لم يعد بمقدورهم النظر إليها. كل شيء كان ينهار أمامهم: الشجر الذي رافق نموهم، والأرض التي حملت حبات عرقهم، وحتى تلك الزاوية الصغيرة من البيت التي كانت ملجأهم عند التعب. 

معاناة البحث عن مأوى في زمن الحرب: 

امتدت رحلة النزوح عبر طرق ضيقة ملأتها الحشود، كانت السيارات والشاحنات تحمل عائلات بأكملها، تسير في صمت مهيب يشوبه البكاء والخوف. كل شخص كان يحمل جزءًا من ذاكرته، حقيبة صغيرة تتسع لأشياء قليلة، ولكنها تمتلئ بثقل الأيام التي عاشوها في تلك البيوت الدافئة. 

وصل النازحون إلى المدن الكبيرة، لكن حتى هناك، لم تكن الحياة كما تخيلوها. أبواب المنازل كانت موصدة أمامهم، والإيجارات ارتفعت بلا رحمة، وكأنّ المدينة نفسها تتآمر عليهم في وقت كانوا يبحثون فيه عن ملاذ يقيهم قسوة الغربة. لجأ الكثير منهم إلى المدارس المهجورة، حيث أصبحت الصفوف الدراسية ملاذًا لعائلات كاملة، ينام الأطفال على الطاولات، وتطبخ الأمهات على مواقد بدائية. تحولت السبورة التي كانت تكتب عليها أحلام الطلاب إلى لوحة تحكي قصص النزوح، والخوف، والأمل الذي لم ينكسر رغم كل شيء. 

شهداء الأرض والذكريات: 

وفي تلك اللحظات العصيبة، هناك رجال اختاروا البقاء  والتمسك بتراب الجنوب، حاملين السلاح بيد وحب الوطن في قلوبهم. دافعوا عن بيوتهم بأجسادهم، وسقطوا شهداء على أرضٍ رفضوا أن يغادروها. تحول هؤلاء إلى قصص تُروى في ليالي النزوح، وأبطال خلدهم التاريخ بصمودهم وصبرهم. خطّوا أسماءهم بدمائهم على جدران الأزقة القديمة، وتركوا أرواحهم تنبض في حقول القمح، لتنبت كل عام كزهور حرية لا تذبل. صاروا رمزًا لمقاومة لا تنطفئ، ولكرامةٍ تأبى أن تنحني، أحياءً في ذاكرة الجنوب، حاضرون مع كل موسم حصاد، ومع كل حكاية تروى على لسان الأجيال القادمة. 

حنين إلى الجمال المفقود: 

في خضم الدمار والضياع، كانت القلوب تتوق إلى جمال الوطن الذي غادروه خلفهم، حيث تتداعى الذكريات عن رائحة الزعتر والزيتون البري الذي كان يغطي تلال الجنوب. يتذكر النازحون صوت الأمواج وهي تعانق شواطئ صور وصيدا، تلك الشواطئ التي كانت تملؤهم بالدفء والسعادة في أيام الصيف. والغابات التي كانت تمنحهم الظل بظلال الصنوبر والأرز، باتت الآن مجرد ذكرى عالقة في الأذهان، تثير الشوق وتكسر القلوب. 

الأمهات يتذكرن حقول الزيتون التي رعَوْها لسنوات طويلة، وأياديهن التي كانت تجمع ثمارها في موسم الخريف وسط أغانيهن بين الأشجار. كانت تلك الأرض شريكة في أفراحهم وأتراحهم، شاهدة على ضحكاتهم التي علت في حفلات الزفاف، وعلى الأحزان العميقة في جنازات الأحبة، تاركةً جرحًا لا يندمل في النفوس. 

الأمل في العودة يتحدى المستحيل: 

ورغم كل الألم، كان الأمل يشق طريقه بين الحطام. لا يزال النازحون يتحدثون عن العودة، عن إعادة بناء البيوت المدمرة، وزرع حقولهم من جديد. يتحدثون عن يوم سيعودون فيه إلى قراهم، ليعيدوا الحياة إلى شوارعها الضيقة، ويملؤوا سماءها بالأغاني والأهازيج. 

يقول أحدهم: “سنعود، نحن أبناء هذه الأرض، ولن نتركها مهما طالت الغربة. سنعيد بناء الجدران، ونزرع الأشجار، وسنعيد إلى الأرض حياتها وحبها”. في تلك الكلمات يتجسد الأمل الذي يتحدى المستحيل، الأمل الذي يحملهم في ليالي النزوح الطويلة، ويضيء لهم طريق العودة إلى ديارهم. 

مهى عزالدين 

في يومٍ من أيام الحرب على جنوبنا، وبين جدران بيوتٍ غريبة، ضاقت نفسي فكتبت بعض الكلمات علَّها تشفيني وتشفي زملائي، لعلهم يجدون بين طيات كلماتها بعض الراحة. 

 
kashida logo white

شغفنا هو نجاحكم. نحن هنا لمساعدتكم في تحقيق أهدافكم التعليمية والحصول على النتائج التي تحتاجونها للنجاح. لماذا لا نتواصل اليوم؟